الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال القرطبي: قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سيء بِهِمْ}لما خرجت الملائكة من عند إبراهيم، وكان بين إبراهيم وقرية لوط أربعة فراسخ بصرت بنتا لوط وهما تستقيان بالملائكة ورأتا هيئة حسنة؛ فقالتا: ما شأنكم؟ ومن أين أقبلتم؟ قالوا: من موضع كذا نريد هذه القرية قالتا: فإن أهلها أصحاب الفواحش؛ فقالوا: أَبِها من يضيفنا؟ قالتا: نعم هذا الشيخ وأشارتا إلى لوط؛ فلما رأى لوط هيئتهم خاف قومه عليهم.{سياء بِهِمْ} أي ساءه مجيئهم؛ يقال: ساء يسوء فهو لازم، وساءه يسوءه فهو متعدّ أيضًا، وإن شئت ضممت السين؛ لأن أصلها الضمّ، والأصل سُوِئ بهم من السوء؛ قلبت حركة الواو على السين فانقلبت ياء، وإن خففت الهمزة ألقيت حركتها على الياء فقلت: {سِيَ بِهِم} مخففًا، ولغة شاذة بالتشديد.{وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} أي ضاق صدره بمجيئهم وكرهه.وقيل: ضاق وسعه وطاقته.وأصله أن يَذْرَعَ البعير بيديه في سيره ذَرْعًا على قدر سعة خَطْوِه؛ فإذا حُمِل على أكثر من طَوْقه ضاق عن ذلك، وضعف ومدّ عنقه؛ فضيق الذّرع عبارة عن ضيق الوُسع.وقيل: هو من ذَرَعه القيء أي غلبه؛ أي ضاق عن حبسه المكروه في نفسه، وإنما ضاق ذرعه بهم لما رأى من جمالهم، وما يعلم من فسق قومه.{وَقَالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ} أي شديد في الشر.وقال الشاعر:وقال آخر: ويقال: عصِيبٌ وَعَصَبْصَبٌ على التكثير؛ أي مكروه مجتمع الشر وقد عصب؛ أي عصب بالشر عِصابة؛ ومنه قيل: عُصبة وعِصابة أي مجتمعو الكلمة؛ أي مجتمعون في أنفسهم.وعَصَبة الرجل المجتمعون معه في النسب؛ وتعصّبت لفلان صرت كعصبته، ورجل معصوب، أي مجتمع الخَلْق.قوله تعالى: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} في موضع الحال.{يَهْرَعُونَ} أي يسرعون.قال الكسائي والفراء وغيرهما من أهل اللغة: لا يكون الإهراع إلا إسراعًا مع رِعدة؛ يقال: أُهْرِع الرجل إهراعًا أي أسرع في رِعدة من بَرْد أو غضب أو حُمَّى، وهو مُهرَع؛ قال مُهلهِل: وقال آخر: وهذا مثل: أُولِع فلان بالأمر، وأرعِد زيد، وزُهِي فلان.وتجيء ولا تستعمل إلا على هذا الوجه.وقيل: أهرِع أي أهرعه حِرصُه؛ وعلى هذا {يُهْرَعُونَ} أي يُستحثّون عليه.ومن قال بالأول قال: لم يسمع إلا أُهْرِع الرجلُ أي أسرع؛ على لفظ ما لم يسمّ فاعله.قال ابن القوطيّة: هُرِع الإنسان هَرَعا، وأُهرِع: سِيق واستعجِل.وقال الهروي: يقال: هُرِع الرجلُ وأُهْرِع أي استحث.قال ابن عباس وقتادة والسّديّ: {يُهرعون} يهرولون.الضحاك: يَسعون.ابن عُيينة: كأنهم يدفعون.وقال شِمر بن عطية: هو مشي بين الهرولة والجَمزَى.وقال الحسن: مشيٌ بين مشيين؛ والمعنى متقارب.وكان سبب إسراعهم ما روي أن امرأة لوط الكافرة، لما رأت الأضياف وجمالهم وهيئتهم، خرجت حتى أتت مجالس قومها، فقالت لهم: إن لوطًا قد أضاف الليلة فِتية ما رؤي مثلهم جمالًا؛ وكذا وكذا؛ فحينئذ جاؤوا يُهرعون إليه.ويذكر أن الرسل لما وصلوا إلى بلد لوط وجدوا لوطًا في حرث له.وقيل: وجدوا ابنته تستقي ماء من نهر سَدوم؛ فسألوها الدلالة على من يضيفهم ورأت هيئتهم فخافت عليهم من قوم لوط، وقالت لهم: مكانكم وذهبت إلى أبيها فأخبرته؛ فخرج إليهم؛ فقالوا: نريد أن تضيفنا الليلة؛ فقال لهم: أو ما سمعتم بعمل هؤلاء القوم؟ فقالوا: وما عملهم؟ فقال أشهد بالله إنهم لشر قوم في الأرض وقد كان الله عزّ وجل قال لملائكته لا تعذبوهم حتى يشهد لوط عليهم أربع شهادات فلما قال لوط هذه المقالة، قال جبريل لأصحابه: هذه واحدة، وتردّد القول بينهم حتى كرر لوط الشهادة أربع مرات، ثم دخل بهم المدينة.قوله تعالى: {وَمِن قَبْلُ} أي ومن قبل مجيء الرسل.وقيل: من قبل لوط.{كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات} أي كانت عادتهم إتيان الرجال.فلما جاؤوا إلى لوط وقصدوا أضيافه قام إليهم لوط مدافعًا، وقال: {هؤلاء بَنَاتِي} ابتداء وخبر.وقد اختلف في قوله: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي} فقيل: كان له ثلاث بنات من صُلبه.وقيل: بنتان؛ زيتا وزعوراء؛ فقيل: كان لهم سيّدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه.وقيل: ندبهم في هذه الحالة إلى النكاح، وكانت سنتهم جواز نكاح الكافر المؤمنة؛ وقد كان هذا في أول الإسلام جائزًا ثم نسخ؛ فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنتًا له من عُتْبَة بن أبي لهب، والأخرى من أبي العاص بن الربيع قبل الوحي، وكانا كافرين.وقالت فرقة منهم مجاهد وسعيد بن جُبير أشار بقوله: {بَنَاتِي} إلى النساء جملة؛ إذ نبيّ القوم أب لهم؛ ويقوّي هذا أن في قراءة ابن مسعود: {النبي أَوْلَى بِالمُؤْمِنينَ مِنْ أنفسهم وًّأَزواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وهو أبٌ لهم}.وقالت طائفة: إنما كان الكلام مدافعة ولم يرد إمضاءه؛ روي هذا القول عن أبي عبيدة؛ كما يقال لمن يُنهى عن أكل مال الغير: الخنزير أحل لك من هذا.وقال عِكرمة: لم يعرض عليهم بناته ولا بنات أمته، وإنما قال لهم هذا لينصرفوا.قوله تعالى: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} ابتداء وخبر؛ أي أزوّجكموهنّ؛ فهو أطهر لكم مما تريدون، أي أحلّ.والتطهر التنزّه عما لا يحل.وقال ابن عباس: كان رؤساؤهم خطبوا بناته فلم يجبهم، وأراد ذلك اليوم أن يفدي أضيافه ببناته.وليس ألِف {أطهر} للتفضيل حتى يتوهم أن في نكاح (الرجال) طهارة، بل هو كقولك: الله أكبر وأعلى وأجلّ، وإن لم يكن تفضيلًا؛ وهذا جائز شائع في كلام العرب، ولم يكابر الله تعالى أحدٌ حتى يكون الله تعالى أكبر منه.وقد قال أبو سفيان بن حرب يوم أُحد: اعل هُبَلُ اعل هُبَلُ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: «قل الله أعلى وأجلّ». وهبل لم يكن قط عاليًا ولا جليلًا. وقرأ العامة برفع الراء. وقرأ الحسن وعيسى بن عمرو {هُنَّ أطهرَ} بالنصب على الحال. وهُنّ عِماد. ولا يجيز الخليل وسيبويه والأخفش أن يكون هُنّ هاهنا عمادًا، وإنما يكون عمادًا فيما لا يتم الكلام إلا بما بعدها، نحو كان زيد هو أخاك، لتدلّ بها على أن الأخ ليس بنعت.قال الزجاج: ويدلّ بها على أَنّ كان تحتاج إلى خبر. وقال غيره: يدلّ بها على أن الخبر معرفة أو ما قارنها. قوله تعالى: {فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} أي لا تهينوني ولا تذلّوني.ومنه قول حسان: ويجوز أن يكون من الخَزَاية، وهو الحياء، والخجل؛ قال ذو الرُّمة: وقال آخر: وضيف يقع للاثنين والجميع على لفظ الواحد؛ لأنه في الأصل مصدر؛ قال الشاعر: ويجوز فيه التثنية والجمع؛ والأوّل أكثر كقولك: رجالُ صَوْمٍ وفِطر وزَوْرٍ.وخزي الرجلُ خَزَايَةً؛ أي استحيا مثل ذَلّ وهان.وخَزِي خِزيًا إذا افتضح؛ يَخْزَى فيهما جميعًا.ثم وبخهم بقوله: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} أي شديد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.وقيل: رشيد أي ذو رَشَد. أو بمعنى راشد أو مرشِد، أي صالح أو مصلِح. ابن عباس: مؤمن. أبو مالك: ناه عن المنكر. وقيل: الرشيد بمعنى الرّشَد؛ والرَّشَد والرّشاد الهدى والاستقامة. ويجوز أن يكون بمعنى المرشد؛ كالحكيم بمعنى المحكِم.قوله تعالى: {قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} روي أن قوم لوط خطبوا بناته فردّهم، وكانت سنتهم أن من ردّ في خِطبة امرأة لم تحل له أبدًا؛ فذلك قوله تعالى: {قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} وبعد ألاّ تكون هذه الخاصيّة.فوجه الكلام أنه ليس لنا إلى بناتك تعلق، ولا هنّ قصدنا، ولا لنا عادة نطلب ذلك.{وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} إشارة إلى الأضياف. قوله تعالى: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} لما رأى استمرارهم في غيهم، وضعف عنهم، ولم يقدر على دفعهم، تمنى لو وجد عونًا على ردهم؛ فقال على جهة التفجع والاستكانة: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} أي أنصارًا وأعوانًا.وقال ابن عباس: أراد الولد. وأنّ في موضع رفع بفعل مضمر، تقديره: لو اتفق أو وقع. وهذا يطرد في أن التابعة لِلو. وجواب لو محذوف؛ أي لرددت أهل الفساد، وحلت بينهم وبين ما يريدون.{أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} أي ألجأ وأنضوي.وقرئ {أو آوِيَ} بالنصب عطفًا على {قوّة} كأنه قال: {لو أن لي بكم قوّة} أو إيواء إلى ركن شديد؛ أي وأن آوى، فهو منصوب بإضمار {أن}.ومراد لوط بالركن العشيرة، والمنعة بالكثرة.وبلغ بهم قبيح فعلهم إلى قوله هذا مع علمه بما عند الله تعالى؛ فيروى أن الملائكة وَجَدت عليه حين قال هذه الكلمات، وقالوا: إن ركنك لشديد.وفي البخاري عن أبي هُريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يرحم الله لوطًا لقد كان يأوي إلى ركن شديد». الحديث؛ وقد تقدّم في البقرة. وخرجه الترمذيّ وزاد «ما بعث الله بعده نبيًا إلا في ثروة من قومه».قال محمد بن عمرو: والثروة الكثرة والمنعة؛ حديث حسن.ويروى أن لوطًا عليه السلام لما غلبه قومه، وهمّوا بكسر الباب وهو يمسكه، قالت له الرسل: تنحّ عن الباب؛ فتنحّى وانفتح الباب؛ فضربهم جبريل بجناحه فطمس أعينهم، وعَمُوا وانصرفوا على أعقابهم يقولون: النجاء؛ قال الله تعالى: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} [القمر: 37].وقال ابن عباس وأهل التفسير: أغلق لوط بابه والملائكة معه في الدار، وهو يناظر قومه ويناشدهم من وراء الباب، وهم يعالجون تسوّر الجدار؛ فلما رأت الملائكة ما لقي من الجهد والكرب والنّصب بسببهم، قالوا: يا لوط إن ركنك لشديد، وأنهم آتيهم عذاب غير مردود، وإنا رسل ربك؛ فافتح الباب ودعنا وإياهم؛ ففتح الباب فضربهم جبريل بجناحه على ما تقدّم.وقيل: أخذ جبريل قبضة من تراب فأذراها في وجوههم، فأوصل الله إلى عين مَن بَعُد ومَن قَرُب من ذلك التراب فطمس أعينهم، فلم يعرفوا طريقًا، ولا اهتدوا إلى بيوتهم، وجعلوا يقولون: النجاء النجاء فإن في بيت لوط قومًا هم أسحر من على وجه الأرض، وقد سحرونا فأعموا أبصارنا.وجعلوا يقولون: يا لوط كما أنت حتى نصبح فسترى؛ يتوعدونه. اهـ. .قال الخازن: قوله: {ولما جاءت رسلنا لوطًا} يعني: هؤلاء الملائكة الذين كانوا عند إبراهيم وكانوا على صورة غلمان مرد حسان الوجوه: {سيء بهم} يعني أحزن لوط بمجيئهم إليه وساء ظنه بقومه: {وضاق بهم ذرعًا} قال الأزهري: الذي يوضع موضع الطاقة والأصل فيه أن البعير يذرع بيديه في سيره ذرعًا على قدر سعة خطوه فإذا حمل عليه أكثر من طوقه ضاق ذرعه من ذلك وضعف ومد عنقه فجعل ضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع والطاقة والمعنى وضاق بهم ذرعًا إذا لم يجد من المكروه في ذلك الأمر مخلصًا، وقال غيره: معناه ضاق بهم قلبًا وصدرًا ولا يعرف أصله إلا أن يقال إن الذرع كناية عن الوسع، والعرب تقول: ليس هذا في يدي يعنون ليس هذا في وسعي لأن الذراع من اليد ويقال ضاق فلان ذرعًا بكذا إذا وقع في مكروه ولا يطيق الخروج منه وذلك أن لوطًا عليه السلام لما نظر إلى حسن وجوههم وطيب روائحهم أشفق عليهم من قومه وخاف أن يقصدوهم بمكروه أو فاحشة وعلم أنه سيحتاج إلى المدافعة عنهم: {وقال} يعني لوطًا: {هذا يوم عصيب} أي: شديد كأنه قد عصب به الشر والبلاء أي شد به مأخوذ من العصابة التي تشد به الرأس، قال قتادة والسدي: خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط فأتوا لوطًا نصف النهار وهو يعمل في أرض له وقيل أنه كان يحتطب وقد قال الله سبحانه وتعالى للملائكة لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات فاستضافوه فانطلق بهم فلما مشى ساعة قال لهم أما بلغكم أمر هذه القرية قالوا وما أمرهم قال أشهد بالله إنها لشر قرية في الأرض عملًا يقول ذلك أربع مرات فمضوا معه حتى دخلوا منزله وقيل: إنه لما حمل الحطب ومعه الملائكة مر على جماعة من قومه فتغامزوا فيما بينهم فقال لوط إن قومي شر خلق الله تعالى، فقال جبريل: هذه واحدة فمر على جماعة أخرى فتغامزوا فقال مثله ثم مر على جماعة أخرى ففعلوا ذلك وقال لوط مثل ما قال أولًا حتى قال ذلك أربع مرات وكلما قال لوط هذا القول قال جبريل للملائكة اشهدوا وقيل: إن الملائكة جاءوا إلى بيت لوط فوجدوه في داره فدخلوا عليه ولم يعلم أحد بمجيئهم إلا أهل بيت لوط فخرجت امرأته الخبيثة فأخبرت قومها وقالت: إن في بيت لوط رجالًا ما رأيت مثل وجوههم قط ولا أحسن منهم.
|